صراع القيم الثقافية وتأثيرها على الاندماج في المجتمعات الأوروبية

صراع القيم الثقافية وتأثيرها على الاندماج في المجتمعات الأوروبية

سمر مَدْور | طالبة علم نفس وكاتبة

كثير من النقاشات الثقافية بين أبناء جاليتنا العربية في بلاد المهجر باتت تنتهي بـ أفق مسدود حيث أصبح الشخص المندمج في مجتمعه الجديد يُعاب ويُقال عنه بصوت ساخر (أصبح أوروبياً) أي أنه تخلى عن عاداته وانتمائه، وكأن تقبله لمجتمعه الجديد ومحاولاته للاندماج في المجتمع باتت تشكل خطراً على أبناء جاليته، لكن مهلاً هل تشكل المجتمعات الغربية حقاً تهديداً على معتقداتنا؟.

يعيش العديد من المهاجرين ما بين مجتمعهم الجديد ومجتمعهم البعيد، ويعتبر العمر عاملاً مهماً عند الحديث عن الاندماج حيث أنه كلما كان العمر صغيراً كلما سهل على الشخص تقبل المجتمع الجديد وتشرُّب ثقافته بينما يصعب الأمر على الكبار ويعود السبب غالباً لصعوبة تغيير الأفكار والسلوكيات مع تقدم العمر.

عرّف علم الاجتماع المجتمع على أنه مجموعة من الأفراد الذين يعيشون في إطار مجموعةٍ من الاحتياجات تحت ظل سلسةٍ من المعتقدات والطبائع والأعراف المشتركة، حيث أن العامل الأساسي لتكوين المجتمع والحياة الاجتماعية هي حاجة الإنسان الفطرية للتأثير والتأثر والاشتراك في سياقٍ اجتماعيٍ يكون فيه الفرد جزءاً من كل، لأن النزعة الاجتماعية غايةً فطريةً عند البشر وما لا شك فيه هو أن لاختلاف المعتقدات والقيم والأعراف الثقافية والاجتماعية بين المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية والأوروبية منها تأثيراً ملموساً حيث أن القيم والأعراف تؤثر وتتأثر ببعضها البعض، لكن إلى أي مدى يمكن لتلك الاختلافات أن تؤثر على اندماجنا في المجتمع؟

خارطة الثقافات 

لكي نستطيع أن نحدد تأثير القيم الثقافية على الاندماج يتوجب علينا بادئ ذي بدء أن نحدد نسبة الاختلافات بين الدول.

أبدى العلماء والباحثين الاجتماعيين على مر السنين اهتماماً كبيرا بالدراسات الاجتماعية والثقافية واختلافاتها، واحد أكبر البحوث العالمية في هذا المجال هو مشروع مسح القيم العالمية (بالإنجليزية:World Values Survey WVS ) حيث يهدف المشروع إلى استكشاف القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والدينية والسياسية في الثقافات المختلفة حول العالم و تحديد القيم المتغيرة بمرور الوقت بالإضافة إلى تقديم خارطة للثقافات العالمية Inglehart – Welzel Cultural Map ويغطي المشروع ما يقارب 90 في المئة من دول العالم، وبناءً على إجابات المواطنين من كل دولة يتم تقديم صورة دورية موجزة عن وضع البلدان المختلفة في العالم.

انطلاقاً من البيانات التي تم جمعها يعتقد العلماء القائمين على هذا البحث رونالد إنغلهارت وكريستيان ويلزل وجود بعدين رئيسيين للتنوع الثقافي في العالم (أي الخصائص أو الصفات المرغوب فيها من الجماعة والتي تحدد ثقافة المجتمع).

  1.  القيم التقليدية المحافظة مقابل القيم العلمانية العقلانية: حيث تؤكد القيم التقليدية على أهمية الدين، والإذعان للسلطة الأبوية والعائلية، وتتمتع غالباً تلك المجتمعات بمستويات عالية من الفخر الوطني والنظرة القومية وتعْتبر الأسرة شيء رئيسي حيث أن الهدف الرئيسي في حياة معظم أفرادها هو جعل والديهم فخورين؛ كما يجب على الآباء بذل قصارى جهدهم من أجل عائلاتهم حتى وإن كان ذلك على حساب رفاهيتهم،  على عكس المجتمعات ذات القيم العلمانية العقلانية، حيث تضع هذه المجتمعات تركيزًا أقل على الدين والسلطة العائلية التقليدية وتشجع على الحرية الشخصية والانفرادية.
  2. قيم البقاء مقابل قيم التعبير عن الذات(الحرية): ترتكز قيم البقاء على الأمن الاقتصادي والمادي للدولة، حيث يميل الناس في المجتمعات التي تشكّلت بسبب انعدام الأمن الوجودي والقيود الفكرية والاجتماعية الصارمة والسلطة الأبوية إلى التأكيد على الأمن الاقتصادي والمادي قبل كل شي، حيث إنهم يشعرون بالتهديد من التغيير الثقافي، والتنوع العرقي – مما يؤدي إلى عدم التسامح مع المثليين وغيرهم من الجماعات الخارجية، بالإضافة إلى النظرة السياسية الاستبدادية والإصرار على الأدوار التقليدية للجنسين.

على الجانب الآخر تُعطي قيم التعبير عن الذات أولوية عالية للفردانية، أي أن المصلحة الشخصية للفرد تتحقق فوق اعتبارات الدولة وتأثيرات المجتمع والدين (على عكس الجماعية)، وترتبط هذه القيم بظهور التأكيد المتزايد على حماية البيئة، والحركات النسائية، والمتطلبات المتزايدة للمشاركة في صنع القرار في الحياة الاقتصادية والسياسية، ووفقاً لخارطة الثقافات خلال الثلاثين عامًا الماضية، أصبحت هذه القيم منتشرة بشكل متزايد في جميع مجتمعات ما بعد الصناعة تقريبًا وخاصة خلال الثلاثين عامًا الماضية.

تُظهر الخريطة الثقافية أعلاه التمركز الثقافي للدول وفقاً للبعدين الرئيسيين للتنوع الثقافي، حيث نلاحظ التقارب الثقافي بين بعض البلدان من حيث القيم، بغض النظر عن الموقع الجغرافي مثلاً: نلاحظ نرى أن السويد واليابان أقرب إلى بعضهما البعض في بعض النواحي أكثر من السويد وسويسرا، بالإضافة إلى تشارك الدول الإسكندنافية الأوروبية القيم بشكل واضح، مقارنةً بالإختلاف الشاسع بين موقع الدول العربية والإسلامية والدول الأوروبية، ونرى العديد من المجتمعات التي تملك درجات عالية في القيم التقليدية وقيم البقاء مثل: زيمبابوي ، المغرب ، الأردن ، ليبيا وبنغلاديش، بالمقابل  هناك العديد من المجتمعات ذات الدرجات العالية في قيم العلمانية العقلانية والتعبير عن الذات: السويد ، النرويج ، اليابان ، ألمانيا ، فرنسا ، سويسرا ، جمهورية التشيك ، سلوفينيا ، وبعض البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية. وبتحليل مبسط يعكس التحرك للأعلى على هذه الخريطة التحول من القيم التقليدية إلى العلمانية، كما يعكس التحرك إلى اليمين التحول من قيم البقاء إلى قيم التعبير عن الذات.

السويد بلد الاعتدال! 

تلقب السويد من قبل شعبها بالبلد المعتدل، حيث يفضل الشعب السويدي الاعتدال في كل شيء، لكن فقًا للخارطة الثقافية يبدو أن السويديين هم الأكثر انحرافًا بين جميع شعوب الأرض بعدها نجد الدنمارك والنرويج أيضًا في نفس الاتجاه وإذا نظرنا للدول الأكثر علمانية سنجد اليابان على قائمة الدول الأكثر علمانية.

ماذا يعني هذا؟ حسناً، من وجهة نظر الكاتبة يساعدنا فهم خارطة الثقافات على معرفة العوامل المؤثرة على قيمنا وتجعلنا رؤوفين متواضعين أمام أنفسنا، حيث أن رحلة الهجرة للكثيرين منا لم تكن رحلة جغرافية وحسب، إنما هي رحلة عبر الزمن، فالدول الأوروبية كانت تتبع قيمً تقليدية منذ سنوات عديدة، لكن التطور الصناعي والعولمة المتسارعة لعبت دوراً مؤثر على القيم الثقافية لتلك الدول.

بعد هذا العرض السريع لخارطة الثقافات العالمية والتعرف على تأثير الثقافة السائدة في المجتمع علينا، اسمح لي عزيزي القارئ أن أشاركك أفكاري الثلاث حول الاندماج في المجتمعات الأوروبية، حبذا نتمكن من تجنب صراع الاختلافات الثقافية وتسهيل عملية الاندماج الإيجابي في المجتمع.  

 

المراجع

https://www.worldvaluessurvey.org/wvs.jsp

https://www.iffs.se/nyheter/sverige-varldens-mest-extrema-land/

Exit mobile version