fbpx
لغتي العربيةمؤمن عنانمجلة ألوان أوروبا - العدد الأول

الدور الثقافي في اللغة العربية من منظور لساني


مؤمن العناندكتوراه في التربية والحضارات

لكل لغة نسق لساني ومحتوى ثقافي، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر في تعلم اللغة وتعليمها لأبنائها أو لغير أبنائها، وإن دراسة النسق اللساني من أجل معرفة المحتوى الثقافي، ولا تُكتسبُ قواعد اللغة لذاتها أو لإرضاء الناطقين بها، وإنما تُدرَسُ من أجل تحصيل ما تحمله من المعارف والخبرات والتراكمات الحضارية والمعالم التي ترتكز عليها هوية الناطقين بها. وإن النظر في اللغة باعتبار علاقتها بالتنمية يقودنا بشكل مباشر إلى مجال اللسانيات الاجتماعية التي تُعنى بتبادل التأثير بين اللغة والمجتمع، وتحديد الدور الثقافي في اللغة العربية بدقة وموضوعية. 

اللغة العربية كأي لغة عالمية تحمل عبء إنسانيًا وتراكمًا حضاريًا ضخمًا، كيف لا وهي اللغة الوحيدة التي لم تتغير بنية نسقها اللساني منذ آلاف السنين إلى اليوم، ولم يطرأ عليها تغيير أو تبديل في ذلك النسق، بل وقفت شامخة كأمٍ تحنوا على أبنائها، وتعطف على أبنائها غيرها وتقدم لهم ما ينفعهم دون أن يسلب شيئًا مما لديهم، وقد مرت عبر أطوارها الحضارية بمراحل وأمم وشعوب نالوا منها الكثير لكنهم لم ينالوا منها إلا بمقدار تأثرهم بذلك النسق اللساني والمحتوى الثقافي.

تعد اللغة العربية من أقدم اللغات التي عرفتها الإنسانية، وهي اللغة الوحيدة من بين تلك اللغات القديمة حافظت على تطورها دون تغير أو تبديل في أوضاعها اللسانية وأنساقها الرمزية، بل إن القارئ المطلع على التراث العربي يعلم بيقين أن قصيدة شعرية نظمت قبل أكثر من ألفي عام تكاد لا تحتوي على كلمات غير معروفة لنا باستثناء بضع مفردات تندرج تحت الأوضاع الرمزية والأنساق الثقافية للعصر الذي عاش فيه الشاعر، وهي اللغة التي حملت التراكمات الحضارية بتعدديتها الواسعة وحافظت على خصائصها اللسانية، وخالطت دون انصهار، وشاركت دون اضمحلال، بل أفادت الكثير حتى لا تكاد معجم أي لغة من لغات العالم اليوم قديمها وحديثها إلا ويحمل من بعض أحمال اللغة العربية وأنساقها اللفظية أو التركيبية، كلمات أو مفردات أو أفعال أو تعبيرات.

والعربية لغة تأسر مستخدميها بأنساقها اللسانية من قواعد نحوية وبُنى صرفية ونُظم بلاغية وسياقات بيانية ومفاهيم دلالية، وإنها تدهشهم بسعة حملها الثقافي، إذ اللغات البشرية؛  والعربية أوّلها، لا تنحصر أدوارها في التنمية فحسب لأنها هي المقياس المعتمد لما يُسمّى “الأوطان اللغوية” كوطن العربية، ووطن الفرانكفونية ونحوهما من الأوطان اللغوية، وإن الانتقال بين الأوطان اللغوية ليس أمرًا سهلاً، لأن مواطنها أسير تلك الأنساق الرمزية من قواعد التعبير عن المعاني والصياغة القولية للمقاصد الكلامية، فاللغة تُقيِّدُ النّاطقين بها وتَرسِمُ حُدودًا ثقافيّة تَمنع من اختلاطها بغيرها من اللُّغات، وبها تتمايز الحضارات وينفصل بعضها عن بعض، وعليه فاللغة تَربِطُ أهلها برابِطتَين تقيدهم في التفكير والسلوك، الأولى: رابطةٌ نَسَقيّةٌ تتعلق بقواعد التفكير والتعبير. والثانية: رابطةٌ ثقافيةٌ تخُصُّ القيم التي تقوم عليها التنمية، وتتأسس عليها الرؤى المستقبلية لتطور الفكر والمجتمع.

وعلى الرغم من اشتراك جميع اللغات في الوظيفة التواصلية إلا أن اللغة العربية تختص بمميزات كبرى، وذلك نظرًا لعمق ديوانها الثقافي، لذلك لا يتمكّن أصحاب اللُّغات المُستعملة اليوم في ميادين المعارف أن يتواصلوا بنفس الدرجة من العمق في أي من الحقول المعرفية والميادين العملية الرَّائجة في العصر الحالي، ومثاله: لو جُمِعَ عدد من علماء الأديان، ليتحدث كُلُّ واحد منهم بلسان قومه عن موضوع “الجنة” مَثلاً، لتفاوتت أوصافهم اتساعًا وضيقًا، أو في موضوع “الوجود”؛ لتباينت أوصافهم ومفاهيمهم واتسعت دون حدود، ومثل هذا التفاوت المعرفي ناتج حتمًا عن تفاوتٍ في ما يتضمنه معجم كل لغة من مفردات ترتبط بالموضوع الموصوف.[1]  

إن ثقافة الإنسان مُدوَّنةٌ في معجمه اللغوي ومَحمولةٌ في مُفرَداته وألفاظه، ومن المعروف أن المعجميين من أحرص اللغويين على ضبط بنية الكلمة وتدقيق معانيها، وإن المنهاج المعني بتعليم اللغة العربية يجب أن يشتمل على المفردات العربية، وأن يبرز انتماء تلك المفردات إلى الميدان الثقافي العربي الذي يتم تداول تلك الألفاظ فيه، إذ كل مفردة تعتبر حَدًّا مُجملاً لمفهوم معين، وتعريفها حدّ مُفصَّل، وتركيبها معلومة مستفادة، ومقدار المعلومات المتجمعة حول أي موضوع بعضٌ من ديوان اللغة الثقافي. وتتكرر هذه المعادلة في كل مجتمع لغوي، حتى إذا طُلِبَ التحقق من المستوى الثقافي لأي ناطق باللغة أو متعلم لها، فإننا نلتمس ذلك في معجمه اللغوي وثروته اللفظية التي يمتلك مهاراتها اللغوية الأربع، فمستواه الثقافي يعادل حجم معجمه اللغوي. وهنا لا نقرر أمرًا بل نوصف حقيقة وهي أن المعجم اللغوي ليس نظامًا من أنظمة اللغة، لعدم اشتماله على شبكة العلاقات العضوية والقيم الخلافية التي تتمتع بها اللغة بين فروعها، ولا يمكن لمحتوياته أن تقع في جدول يمثل احتكاك هذه العلاقات في نظم صوتية ونحوية وصرفية. فالمعجم اللغوي بحكم طابعه والغاية منه ليس إلا قائمة من الألفاظ التي تمثل تجارب المجتمع. وبالتالي لا يمكن أن يكون مُعجمُ لغة واسعًا وديوانها الثقافي ضيقًا، والعكس صحيح، وعلى قدر إغناء المعجم يتحدد مستوى النمو الثقافي للغة، بشرط ألا يكون هذا الإغناء عن طريق الاقتراض من لغات أخرى، لإثراء قواميس ورقية.[2]

ومن المقرر في اللّسانيات الاجتماعيّة أنّ اللّغة انعكاسٌ للثقافة التي يصنعها الناس في مجتمع ما ويمارسونها، بما أنّهم يعطون قيمة لأشياء معيّنة وبما أنّهم يَقومون بأفعال ما بطريقة ما، فإنّهم ينقلون ذلك بلغتهم، فهي تعكس تلك الأشياء الهامّة لديهم وكلّ ما يقومون به من أفعال، فالثقافة تؤثّر في استعمال اللّغة فحسب ولا تُحدّد بُنى اللّغة بحال من الأحوال. وإن الروابط التي تجمع اللغة والناطقين بها تتجه من الفرد إلى اللغة، وهي علاقة نفعية؛ وعلى قدر انتفاع الفرد باللغة تشتد روابطه بها، والعكس كذلك، ويتقدر الجهد الثقافي الذي ينبغي بذله لإتقان اللغة وإجادة التواصل بها بحسب قوّة هذه الروابط. ولا تكون اللغة المكتسبة في مأمن مهما اكتمل بناؤها وتكاملت عناصر نضجها إذا خَفّ حِملها الثقافي والحضاري، أو جفاها الناطق بها، فغنى المحتوى الثقافي واحد من أهم عوامل تمكين اللغة وتثبيتها.[3]

المحتوى الثقافي في تعليم العربية

إن محتوى اللغة العربية واسع، لأنه خزّانها الفنيٌ، وديوانها الثقافي، فيه تاريخها وأطوار حضارتها وأدبها وأخلاقها، وسماتها وخصائصها، وفكرها واعتقادها، وطموحها ومستقبلها، واللّغة من مكوِّنات المجتمع الأساسية، ومن أعضائه الحيوية، والمحتوى الثقافي العربي هو مجموع ذلك التراكم المعرفي الغزير والمتناثر في تاريخ الفكر العربي، وما يتشكل منه من الأنماط الحديثة والمعاصرة، ويشكل تراث العرب اللغوي تحولاً جوهريًا في مسيرة التراث اللغوي العالمي.

من الثوابت التاريخية أن اللغة العربية لم تدخل أبدًا في علاقة قوة أو صراع وجودي مع أية لغة قومية ولا حتى مع لغة قبيلة، في أي من البلاد التي وصلتها الفتوحات الإسلامية، بل حرصت العربية على استمرار لغات الأمصار حيّة، فقاسمتها وظائف التواصل الاجتماعي، وإن التراث العلمي المعرفي الأكبر المستودع في جميع دول العالم اليوم لا يقارن بحجم التراث المعرفي والإنساني والتاريخي المخطوط باللغة العربية، وإن خزائن المخطوطات العربية لتنوء بها أحمال دول كثيرة بكامل مؤسساتها.

وإن التراث اللغوي العربي أشمل وأوسع مما قدمه النحاة العرب أمثال الخليل بن أحمد وسيبويه وابن يعيش وابن مالك وابن هشام وغيرهم. فهو كل عمل عربي وضعه العرب القدماء من أجل تفسير النص القرآني والأحاديث النبوية الشريفة، والنصوص العربية الأخرى التي تحمل أصول الفكر العربي وأدواته، والموروث الأدبي الضخم بشعره ونثره، والنقد العلمي والأدبي للنواتج التراثية المخزونة في ديوان هذه الأمة الثقافي، وبالتالي فإن مصادر محتوى لغتنا الثقافي أبعد بكثير من مجرد كتب لغوية، فهو يضم:

  1. كتب النحو وشروحه التي تعالج بناء الكلام العربي وتراكيبه وسلامته.
  2. كتب الصرف وشروحه التي تعالج بنية اللفظ العربي واشتقاقاته وتطوراته.
  3. كتب البلاغة والبيان وعلم المعاني التي تدرس الدلالات اللغوية والاصطلاحية.
  4. دواوين العرب الشعرية والشروح التي تناولتها.‏
  5. مصنفات العرب وموسوعاتهم الأدبية النثرية بأنواعها وفروعها الأدبية.
  6. كتب تجويد قراءة القرآن الكريم، التي تدرس الصوتيات اللغوية العربية.‏
  7. تفاسير القرآن الكثيرة والغزيرة في بيان التطبيقات الوظيفية لِلُّغة العربية.
  8. كتب السنة النبوية المطهرة وشروحها الحديثية واللغوية والاستنباطية والآداب.
  9. كتب الفقه والقوانين الإسلامية بكافة مدارسها الفقهية وفروعها المذهبية وشروحها.
  10. كتب أصول الفقه وأصول استنباط الأحكام الفقهية وشروحها من جميع المذاهب.
  11. كتب الفلسفة والمنطق والكلام وشروحاتها التي أضافت كثيرًا من المفاهيم والاصطلاحات.
  12. الموسوعات المعرفية المختلفة التي كتبها الكتّاب العرب، أمثال الجاحظ وابن عبد ربه وابن حزم الأندلسي وغيرهم.‏
  13. المعاجم اللغوية كما هي الحال عند ابن منظور والجواهري والفيروزآبادي وابن فارس والأصمعي والزمخشري وغيرهم.‏
  14. كتب التاريخ والروايات الأدبية والطرائف كما هي الحال عند الطبري وياقوت الحموي والأصفهاني وغيرهم.‏
  15. الأعمال الفنية الحديثة والمعاصرة من المسرح والدراما وغيرها. 
  16. السلاسل الوثائقية المسجلة مرئيًا ومسموعًا من محطات التلفزة والشبكات الإعلامية العربية، والتي تحمل خصائص المجتمعات الثقافية، وكذلك المقابلات التوثيقية والمحاضرات والندوات الفنية والأدبية والأخلاقية والدينية والعلمية وغيرها.
  17. السجلات والوثائق المدنية التي توثق أحوال الناس.
  18. السجلات والوثائق العلمية التراثية والمعاصرة التي تحفظ تاريخ الأمة وحاضرها وثقافتها.

إن الباحث في أعمال البلاغيين العرب الذين تحدثوا عن معاني اللغة العربية ودلالاتها في إطار البلاغة والبيان أمثال الجُرجاني (471هـ) والسَّكَّاكي (626هـ) والقَزويني (395هـ) وغيرهم يجد بعض النظرات الدلالية العميقة في أعمال النحاة العرب عندما كانوا يتحدثون عن تراكيب اللغة العربية ونحوها. وهذا ملاحظ عند ابن يعيش (643هـ) في كتابه “شرح المفصل”. ثم إن دلالات اللغة العربية ومعانيها أخذت حظاً كبيراً من الدراسة على أيدي الفلاسفة وعلماء المنطق العرب والمسلمين أمثال الفارابي (339هـ) وابن سينا (428هـ) وابن رُشد (595هـ) وغيرهم، وهناك نظرات دلالية عميقة جداً مبعثرة هنا وهناك ولاسيما في أعمال المفسرين العرب والمسلمين الذين تناولوا القرآن الكريم والأحاديث النبوية تفسيراً وشرحاً.‏ وتبرز مثل هذه الدراسات عند الجاحظ (255هـ) في بعض مؤلفاته ولا سيما “البيان والتبيين” و”الحيوان”، وبعضها حول العلاقة بين اللغة والمجتمع عند بعض الشعراء في نثرهم أمثال أبي العلاء المعرِّي (449هـ) في “رسالة الغفران”، وكذلك نجد هذه الأعمال عند من بحثوا في قضية اللغة العربية واللهجات المتفرعة عنها وأنظمة التفرع وضوابطه.

إن الفضل في فهم حقيقة المكنون الثقافي لأمّة من الأمم إنما يعود إلى لغتها، فهي التي تعبر عنه بكل أنوعه ومفاهيمه، كما أن التراث اللغوي العربي يعبر بوضوح عن تاريخ الأمة ويسجل أدوارها الثقافية عبر الزمن، لأنه يحمل هوية الناطقين به من جيل إلى جيل على امتداد الأزمان. 

إن اكتساب المتعلم قدرًا معينًا من المعارف المتعلقة بقيم متكلمي اللغة العربية ومعتقداتهم وعاداتهم وأعرافهم واحتفالاتهم الشعبية والوطنية والدينية والشبابية التي تتجلى أوقات التفاعلات الاجتماعية، والمناسبات العامة، والتي يعُبّر عنها بعبارات اللباقة والسلوك المهذب واللائق كل ذلك إنما يعكس الثقافة المتضمنة في اللغة والتي لا بد أن يتعلمها متعلم اللغة ولن يصل إليها دون مواقف اتصالية تحقق له العيش في ذلك الجو الثقافي الذي تعبر عنه اللغة لكن معناه يأتي من الممارسة والسلوك الثقافي، عندها سيمتلك ناصية الاستعمال اللفظي للغة والتعبير الثقافي بمعرفة ووعي وكفاءة، وهذه الثلاثة إنما هي متطلبات التدرج في الكفاءة الثقافية (Cultural Competence).


[1]  ينظر: لسان حضارة القرآن، الأوراغي 41-44.

[2]  ينظر: حركة التأليف عند العرب، أمجد الطرابلسي، 1/44-45.

[3]  ينظر: المرجع السابق 78-83.

زر الذهاب إلى الأعلى